اتصل بنا
 

تحصينات اللّاوعي

نيسان ـ نشر في 2019-05-20 الساعة 20:20

x
نيسان ـ نيسان_خاص
نلاحظ في باب التشدد أن المتحمّس لتأييد فكرة ما، حدَّ التطيّر والشطط، ربما كان أقل الناس إيمانا بها، وفي المقابل فإن المتشدد في عدائه للفكرة ذاتها قد يكون أقرب الناس إيمانًا بها، فكل منهما يمارس التشدد من موقعه بالعنت ذاته على سبيل السعي للتحصن؛ الأول يخاف أن ينزلق عن الفكرة فيبالغ في إظهار قناعته بها ليحافظ على منعة عرى ووشائج الالتصاق بها، بينما الثاني يخاف أن ينزلق إلى محرابها فيمارس تعنته إزاءها من باب التحصن والتمترس ليبقى على مسافة آمنة، فيتشبث كل منهما بنتوءات أفكار بالكاد تبرز من المسطحات الزلقة، مُعتقدين أنه الثبات الذي يؤدي الى امتلاك الحقيقة كاملة، ثم لا يلبث كل منهما أن يتوارى بعيدا عن مواجهة الواقع، مختبئا في ظلال نُصبٍ ما، تحت طائلة الخوف من أن تلفحه نفحات الفكرة المضادة.
أما أولئك الذين يميلون حيث تميل الريح، فلا أرضية صلبة يقفون عليها، لذا هم ينطلقون من قاعدة التكسب من الأطراف جميعهم، لأن القضية الأولى عندهم ليست الرأي أو الموقف والمبدأ كما يروجون، بل هم أبسط من ذلك بكثير؛ هم عملياتيون بامتياز، إذ يصيغون مواقفهم بشكل يومي، بما يتناسب مع قدراتهم التحليلية، وبما يُرضي متطلباتهم اليومية، وما هم إلّا "سرّيحة" بالمعنى الحرفي للتسمية، فأفكارهم المتواضعة، في أحسن تقدير، ينتجونها من أجل تأمين كفاف يومهم، ونتاجاتهم السطحية استهلاكية بالضرورة، وبناء عليه تراهم يومًا مع زيد وفي يوم آخر مع عُبيد، من دون أن ترفّ أجفانهم، فلا تَعجبن من سلوكاتهم المتناقضة حين يمدحون الذي يواجههم ويذمون الآخر وعندما تتبدل مواقفهم بتبدل المجالس يتبدلون، ولا تتفاجأَن براحة ضميرهم المنقطعة النظير.
لكن كل هذا لا يمنع من أن يكون هناك فريق ممن يعرفون الحقيقة ولا تعوزهم الشجاعة، لكنهم في الواقع يُسخِّرون جهودهم لخدمة آخر يمتلك سلطة ما، بينما هم ينتقدونه في أوساط معينة ليبعدوا عن أنفسهم شبهة الخيانة وعارها، مثل الأكاديمي الذي يدّعي العلمية والموضوعية غير انه يكتب باللغة الإنجليزية غير ما يكتب بالعربية في القضية نفسها، معتقدا أن الذين يقرأون له لا يقرأون إلّا لغة واحدة، ولا أحد يتابع نتاجاته "المتنوعة".
أما الأدهى والأمر، أولئك الذين لا يذكرون مناقب الرجل إلّا بعد رحيله، ومنهم من أساء إليه في حياته ونعته بأسوأ ما يمكن أن ينعتَ عدوًا من النعوت، ونهشَ لحمه وتحدّثَ طَعْنًا في أخلاقه، لينضم بعد وفاته إلى جيش البكّائين النوّاحين عليه من أيتام تَتَمحور حركاتهم لأجل استجلاب التعاطف من قبل الآخرين، في محاكاة جديدة للمظلومية، أو في السعي لصناعتها، وهذه ليست جديدة في تأريخنا العربي الإسلامي، فكم من أمير خذله في حياته مَن أطال البكاء عليه بعد مماته؟! نعم؛ إنها الحقيقة، فحوادث التأريخ تعيد سيناريوهات المهازل ذاتها، ابتداء من مقتل عثمان بن عفان وربما لم تتوقف بمقتل الحسين بن علي.
في مقابل اللطم، بعد مقتل الأب، يحدث ابتهاج كبير عند موت الأخ الاكبر، الذي يُعامَل من قبل القطيع كمشروع بديل محتمل للأب، يمكن أن يرثه أو يحتل مكانته ويبدأ بممارسة الأبوة القاسية بما تتضمنه من حرمانهم نعمة متعة اليتم.
لقد عشنا ما عشنا هنا في الأردن، وما زلنا، نتلمّس خطانا على وقع الأحداث الكبيرة وارتداداتها في المنطقة، وبقينا متلقين الأخبار نتابعها ونتفاعل معها بالطريقة ذاتها التي نتابع بها مباريات الفيصلي والوحدات، مع زعم غريب بأننا نحن من يسطر التأريخ ويخطط مساراته المستقبلية.
يحدث ذلك برغم غرقنا في سلاسل طويلة من التناقضات التي ليس آخرها تشجيع فريق من ضحايا اليتم السياسي للحراكات المحلية، عن بعد طبعا، وعلى سبيل التطهر فقط، بينما هو يصفق للدكتاتوريات في دول أخرى، بدعوى مواجهة التفكك، متناسيا أن الخطر ذاته يهدد الدولة الأردنية بوجودها.
وفي مستوى آخر من الهزال السياسي، لا بد من تذكير بعض المتأفّفين من الرسميين وشبه الرسميين أن تشوهات المعارضة مردها تشوهات السلطة، فقط عندما يكون الحُكْم رشيدا تَرشُد المعارضة.

نيسان ـ نشر في 2019-05-20 الساعة 20:20

الكلمات الأكثر بحثاً