اتصل بنا
 

الاغتيال الثاني في قلعة مكاور

نيسان ـ نشر في 2020-07-19 الساعة 14:22

نيسان ـ بعد مرور ألفين سنة تقريبا على أكبر اغتيال في البشرية، وهو قطع رأس نبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام في قلعة مكاور، تلك القلعة التي لا تزال تندب اللحظات العصيبة التي مرت بها في أحد ايامها عندما كان نبي الله يحيى، مقيد القدمين والايدي، تهمته انه قال لا للأعراف الرذيلة التي كانت سائدة آنذاك، لا لزواج المحارم، لا وألف لا لعمل يغضب وجه الله. فما كان من حاكم تلك الفترة آنذاك الملك هيرودس انتباس، الا ان قام بفعلته الشنيعة بالإقدام على اعدام نبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام في قلعة مكاور.
وها هي الآن قلعة مكاور، تشهد اغتيالا اخر، لكن هذه المرة بأيدي ابناءنا، اغتيالا بحق آثارنا، اغتيالا يدمر هويتنا وحضارتنا، اغتيالا يدمر ارثنا وتراثنا، ولكن تهمة القلعة، انها حافظت على ذلك الإرث عبر القرون، رغم تقلبات الزمان، حافظت على روح نبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام، تلك القلعة التي تقف شاهدة شامخة ناظرة الى اسوار القدس الشريف.
نعم للأسف لقد طال التدمير تلك القلعة. وأجزم هنا بأن التدمير الحالي لا يقل تأثيرا عن التدمير الأول على ايدي الرومان، عندما احتلت من قبلهم ودمروا تحصيناتها وقلعتها وابراجها، وها هي الان تتعرض لهجمة، لكن هذه المرة من أبناء جلدتنا. فيجب ان نقف عند هذا الحد. يكفي تدميرا لإرثنا الحضاري وهويتنا الوطنية، يكفي العبث والتخريب بقلعة كانت شاهدة على احداث مهمة من تاريخنا وحضارتنا.
يجب ان يحترم المكان الذي داست عليه اقدام نبي الله عليه الصلاة والسلام وفاضت روحه الطاهرة بهذا المكان.
فالنبي يحيى من الأنبياء أولى العزم وهو من الأنبياء الصالحين، وهو أحد الرسل الذين أرسلهم الله الى بني إسرائيل.
يحيى هو ابن النبي زكريا عليه السلام، الذي رزقه الله بعد مناجاته في المحراب، فجاء الرد الرباني (يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) حيث سماه ربه بهذا الاسم كما انه اسم جديد لم تعرفه البشرية من قبل.
يحيى عليه السلام امتاز بوصف رباني بانه سيدا وحصورا وعفيف وانه زكاة من الله وحنانا وكان تقيا، بارا ولم يكن جبارا عصيا، اتاه الله الحكمة والنبوة، وان الله سلم عليه عند ولادته وموته وحين بعثه.
النبي يحيى دعوته كانت في منطقة وادي نهر الأردن بالقرب من دعوة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ولقب عليه السلام (يوحنا المعمدان).
يحيى بن زكريا امه اشياع بنت عمران، اخت مريم بنت عمران، ويحيى وعيسى عليهما السلام قد رآهما الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، معا ليلة الاسراء والمعراج، في السماء الثانية وسلم عليهما، كما ورد في أحاديث الاسراء.
اما علاقة النبي يحيى بقلعة مكاور، تبدأ من رسالته التي بُعث من اجلها والتي سميت بالصابئة، فهذه الديانة التي كانت موجودة في تلك الفترة، من ضمن تعليماتها، تحريم زواج زوجة الأخ وهو على قيد الحياة، فقد كان الملك هيرودس انتيباس حاكم المنطقة آنذاك يريد الزواج من هيروديا زوجة أخيه، فكان النبي يحيى عليه السلام ناكرا لهذا الزواج.
وفي أحد احتفالات ميلاد ذلك الملك، وبعد رقص سالومي ابنة هيروديا، طلب منها الملك إعادة رقصتها ولها ما تشاء، حتى وان كان طلبها نصف ملكه. فما كان من سالومي، وبالاتفاق مع أمها ان طلبت رأس النبي يحيى. وهكذا نفذ الملك طلبها وقطع راسه، وقدمه على طبق من ذهب الى سالومي وامها.
نعم لقد حدث ذلك الاغتيال في قلعة مكاور، حدث اهتزت له القلعة، من شدة هول الحادثة، بل اهتزت له السهول والجبال والوديان.
وها هي الان قلعة مكاور، تتعرض بشكل خاص بين الحين والأخر، لأعمال تخريب وتشويه من قبل فئة قليلة غير مسؤولة من افراد مجتمعنا. سلكت نهجا سلبيا في تعاملها مع اثارنا الوطنية، مما سبب تشويه لقلعة مكاور.
ان اعمال التخريب والتشويه التي تتم ممارستها في المواقع الاثرية عامة، وفي موقع مكاور بشكل خاص، تتمثل في القيام بالحفر والتخريب بحثا عن كنوز مزعومة. والكنز الحقيقي هو تاريخنا وحضارتنا. الكنز الحقيقي هو توافد السياح على تلك المنطقة، وبالتالي استفادة المجتمع المحلي بتوفير فرص العمل نتيجة الجذب السياحي.
ان خطورة هذه الظاهرة تتمثل في طمس التاريخ الحضاري للمواقع الاثرية، وبالتالي فقد الهوية التاريخية. فغياب الوعي بأهمية المواقع الاثرية عند البعض وعدم إدراك أهميتها تاريخيا وحضاريا واقتصاديا، وعدم معرفة دورها في أثراء ثقافتنا، هو السبب الحقيقي لتعرض تلك المواقع للتخريب. وهنا اقتبس ما قاله الأمير الحسن بن طلال في مقاله الاخير تلك اثارنا تدل علينا " نحن نملك وطنا يستحق أن نحافظ على تاريخه بالمحبة الكبيرة". نعم صدقت سمو الأمير فالتراث الأردني الحضاري هو هم وطني عام يخص مؤسسات الدولة والشعب وعلى الجميع تحمل مسؤولية الحفاظ عليه لانه هو الهوية الوطنية.
اما السبيل للقضاء على تلك الظاهرة نحتاج الى إعادة تأهيل الشباب، وذلك عن طريق توعية الاسر أولا، بأهمية احترام الممتلكات العامة، والمحافظة على كل ما له قيمة تاريخية، من خلال برامج توعوية بعيدة المدى، كذلك لا بد من إطلاق حملة وطنية للتوعية بأهمية الاثار، وبكونها مكسبا للمواطن وملكا لدولته وليست مستباحة، والتأكد على ان سرقتها او طمسها والعبث بها يعد جريمة في حق وطنه وتاريخه.
أيضا لا بد من التعاون مع وزارة التربية والتعليم لترسيخ الوعي لدى الطلبة بأهمية الاثار، وبكونها مصدر استلهام لتاريخ الامة والوطن.
كذلك يجب على وزارة الأوقاف ان تقوم بدورها ومسؤوليتها، في توضيح الموقف الحقيقي للإسلام من هذه المسألة، إضافة الى دور الأكاديميين وذوي الاختصاص، للتوعية بأهمية الاثار وبيان بان إرثنا الحضاري، هو جزء أساسي من كرامتنا الوطنية، وان الحفاظ على هذا الإرث عبر التاريخ ونقلة الى الأجيال القادمة، هو مهمة المجتمع بكل اطيافه السياسية والاجتماعية والدينية. والارث الحضاري هو أمانة في اعناق الأحياء. ويجب ان تبقى تلك الاثار الي وصلتنا عبر الاف السنين مصانة لتطلع عليها الأجيال القادمة.
كذلك نؤكد على دور الجهات الأمنية، في حماية تلك المواقع الاثرية المهمة، وتوديع أي شخص تسول له نفسه العبث بهذه المواقع، الى الجهات المختصة. من جهة أخرى يجب تفعيل المادة المتعلقة بحماية الاثار في قانون الاثار الأردني، وتشديد العقوبات على العابثين.
وان تكون هذه القضايا من اختصاص محكمة امن الدولة، لما لها من أهمية تاريخية وصون وحفاظ الهوية الأردنية، علما بأنه ينص قانون الاثار الأردني لسنة 1988 وتعديلاته وحسب المادة رقم 14 " يحظر على أي شخص القيام بأي حفريات في المواقع الاثرية بحثا عن الدفائن" .
كذلك تنص المادة 26 على ما يلي " يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن ثلاثة الاف دينار وبما يتناسب مع قيمة الأثر كل من:
أ‌- قام بالتنقيب عن الاثار دون الحصول على رخصة بمقتضى احكام القانون.
ب‌- تاجر بالآثار او ساعد او شارك او تدخل او حرض على ذلك.
ت‌- قام متعمدا بإتلاف او تخريب او تشويه أي اثار بما في ذلك تغير معالمها او فصل أي جزء منها او تحويرها.
وفي الختام...... نأمل ان تتكاتف الجهود، الى ضرورة التدخل الفوري، لوقف الاعتداء على موقع مكاور الاثري. ومعالجة ما يمكن معالجته من مظاهر العبث والتشويه.
فلحفاظ على هذه الاثار هي حفاظا على سمعتنا، عندما نصبح تاريخا. وان إبقاء المواقع الاثرية في حلتها، قد يشجع على تطويرها سياحيا، وبالتالي قد يكون له مردود اقتصادي، ليس على الدولة فقط، بل على المجتمع المحلي. من خلال زيادة عدد السياح، وبالتالي استفادة المجتمع من هذه الزيارات وكذلك تشغيل الايدي العاملة المحلية، وهذا هو بحد ذاته الكنز الذي نبحث عنه.

نيسان ـ نشر في 2020-07-19 الساعة 14:22


رأي: خالد احمد الهواوره

الكلمات الأكثر بحثاً