اتصل بنا
 

ليبيا.. من قمع القذافي إلى الحروب الأهلية

كاتبة تونسية

نيسان ـ نشر في 2015-09-07 الساعة 23:14

نيسان ـ

بعد نحو أربع سنوات من القضاء على نظام معمّر القذافي، بمساعدة من حلف شمال الأطلسي، تبدو ليبيا الغارقة في حالة من عدم الاستقرار السياسي، وسط المواجهات المسلّحة بين الفصائل المتنافسة، على شفا الانفجار. ومع تدهور الوضع الأمني، غادرت البعثات الدبلوماسية البلاد، ولوّحت دول بالتدخّل الخارجي، إذ قالت وزيرة الدفاع الإيطالية، روبرتا بينوتي، في فبراير/ شباط 2015، إنّ حكومة بلادها تنظر في دعوة الأمم المتّحدة إلى تنظيم تدخّل في ليبيا للقضاء على الجماعات الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية. وصرّح وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لو دريان، في أكثر من مناسبة، إنّه "ما من حلّ ممكن من دون تدخّل دولي في ليبيا". واعتبر الرئيس النيجري، محمّدو يوسفو، يوم 2 يناير/ كانون الثاني 2015، أنّ التدخّل في ليبيا بات "ضروريا". وعربيًّا شنّت مصر غارات جوية على مواقع في درنة، ردًّا على اغتيال 21 مصرياً قبطيًّا.

ولا يمكن التفكير في مستقبل ليبيا من دون العودة إلى الأحداث التي أدّت إلى سقوط معمّر القذافي (ثورة 17 فبراير). ولئن كان لا يمكن إنكار أنّ انتفاضةً شعبيةً ظهرت في عدّة مدن ليبية، بدايةً من بنغازي في فبراير/ شباط 2011، فإنّ البلاد غرقت في حرب أهلية في غضون أسابيع، مع تعسكر الحراك الشعبي، بغضّ النظر عن أسبابه، وتدخّل قوّة أجنبية، لتؤدي المواجهات إلى القضاء على القذافي يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، من دون أن تُجمِع القوى الحاضرة آنذاك، العسكرية والسياسية، إلّا على إسقاط رأس النظام، ومن دون أن يظهر إطار سياسي واجتماعي ثابت، في ظلّ غياب مؤسسات الدولة، نظرًا لطبيعة النظام، أو بالأحرى اللانظام، الذي كان قائمًا. وسرعان ما تحوّل الإجماع إلى انقسامات على أسس الانتماءات المحليّة والخصائص الإثنية أو القبلية.

القوى المتحاربة
كان نظام القذافي قائمًا على المحسوبية والجهويّة، حيث وفّر امتيازات عديدة للجان الثورية، وفضّل مدناً على مدن أخرى. مثلاً، غداة انقلابه في 1969، نقل شركتي النفط والخطوط الجويّة من بنغازي إلى طرابلس، مفرغًا المدينة من مؤسساتها. في المقابل، تكرّست جهود الدولة من أجل تحسين البنية التحتية في سرت، مثلًا، حيث بُنِيَ مجمّع الأمانات الذي يشمل قصر المؤتمرات الضخم (حيث عقدت قمم عربية وأفريقية)، ومقار بعض الوزارات، والمقرّ الرئيسي للمؤتمر الشعبي العامّ (برلمان القذافي)، ويلتقي فيها أنبوبا النهر الصناعي العظيم، بالإضافة إلى المركّب الجامعي الفخم، ما زاد من شعور المظلومية في بنغازي، خصوصاً. إلّا أنّ القذافي تمكّن، عبر شراء ذمم معظم زعماء القبائل، من إخماد النعرات المناطقية والإثنية، والتي طفت مع سقوطه على السطح، لتضاف إلى الانقسامات الداخلية في صفوف القوى المناهضة للقذافي، والمعارضة التقليدية بين المركز (العاصمة طرابلس) والضواحي (سائر المدن الليبية)، ما أدّى إلى تأزّم الوضع أكثر، في ظلّ الانتشار الهائل للسلاح، واللجوء إلى العنف وسيلة وحيدة لتسوية الصراعات، ولم تتشكّل أيّ قوّة رسمية قادرة على ضبط التنافس بين المدن والمناطق والفصائل، وصار النفوذ السياسي يُقاس بالسلاح والعتاد.
بعد أسابيع من مقتل القذافي، اندلعت مواجهات محدودة في مختلف أنحاء البلاد، وباتت المليشيات الثورية، أو مليشيات ما بعد الثورة، تتنازع على السلطة المحلية، والسيطرة على الأقاليم وعائدات التهريب، ما أجبر الحكومات المتعاقبة على الاعتماد على هذه الكتائب، لتعويض غياب الجيش والشرطة، وحشدت الكتائب الأشدّ قوّة للحد من مستوى العنف.
وبشكل منفصل عن المواجهات المحلية المسلّحة، ظهر نزاع في طرابلس داخل المؤتمر الوطني العام (البرلمان الذي انتخب يوم 6 يوليو/ تموز 2012)، من أجل معركة على السلطة المحلية بين فصيلين: الأوّل يسمّى الفصيل "الليبرالي" أو "الوطني"، ويشار إليه أيضًا بـ"العلماني"، خصوصاً في وسائل الإعلام الغربية، ويضمّ رجال أعمال وكوادر من النظام السابق، مقرّبين من حركة "الإصلاح" التي أطلقها سيف الإسلام القذافي بداية من عام 2005، وضبّاط انشقّوا في بداية الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2011، وبعض المعارضين العائدين من المنفى. أما الثاني ففصيل يشير إليه معارضوه والصحافة الأجنبية بـ"الإسلامي"، في حين أنّه لا يقتصر على الحركة الإسلاموية، باعتبارها تيّارًا سياسياً يدعو إلى أن تكون الشريعة المصدر الأساسي للتشريع، إذ إنّه يشمل عددًا واسعاً من كبار المعارضين، بالإضافة إلى ممثلين عن مصراتة، المدينة التي تعزّزت باسم "الشرعية الثورية"، وعن مدن أخرى من إقليم طرابلس (وفقًا لتقسيم أقاليم المملكة الليبية: طرابلس وفزّان وبرقة) اعتادت على التجارة، مثل الزاوية وزوارة.
وإلى جانب الانقسام بين الإسلاميين والعلمانيين، ظهر انقسام آخر: النخبة التي عملت تحت نظام القذافي، والمنفيون الوطنيون السابقون، في مقابل جيل جديد من المعارضين الإسلاميين في الداخل وفي الخارج. واعتمد الفصيلان على مليشيات قويّة: مليشيات مدينة الزنتان بالنسبة لـ"الوطنيين"، ومليشيات مصراتة بالنسبة لـ"الإسلاميين"، ويسيطر كلّ فصيل شبه عسكري على مواقع استراتيجية في العاصمة طرابلس، مثل المطار، ومفترقات وسط المدينة، والمباني الرسمية، والفنادق الكبرى، واستخدمت هذه القوّة للضغط على قرارات المؤتمر الوطني العامّ، أو على الحكومة الانتقالية.
بدأ عام 2014 ضمن هذا السياق: مركز ضعيف وسط استقطاب ثنائي، وضواحٍ يهيمن عليها المنطق المحلّي، وانقسمت البلاد إلى مجالس محلية، ومجالس عسكرية غالبًا ما تكون مرتبطة بالمليشيات، أمّا التجمّعات الإثنية الكبرى (الطوارق في الجنوب والأمازيغ والتبو في الجنوب الشرقي)، فقد تحرّكت وفقاً لمصالحها، وغالبًا ما تكون هي نفسها منقسمة، مثلما حدث في الحرب الأهلية في 2011، وهكذا رُسِمَت الفصائل وفقًا لمعايير محليّة للغاية.
ومثلما حدث في 2011، كان الاختلاف بين الأجيال حاضرًا، ففي المجتمعات البربرية/ الأمازيغية في جبل نفوسة، مثلاً، رفض شيوخ المدينة الاصطفاف مع أيّ من الفصائل المتخاصمة، خوفًا من أن يتعرّضوا إلى انتقامٍ بعد ذلك من الأغلبية العربية، لكنّهم لم يستطيعوا منع شبابٍ عديدين من الالتحاق بمليشيات ذات أغلبية أمازيغية، تدعم الفصيل "الإسلامي"، من دون الانخراط في أيّ شكل من الإسلام السياسي، ولكن، يحرّكها دافع العداء بين أمازيغ الجبل وجيرانهم العرب في الزنتان.

تصدّر خليفة حفتر المشهد
سرعان ما أضيف إلى الاختلافات القائمة خطّ انقسام آخر، رُسِم تدريجيًّا بين السكّان من أصول بدوية، والحضر والتجّار، إذ لم يكن الإسلام السياسي متجذّراً بين البدو، ما أدّى إلى تحالف أغلبيتهم مع الفصيل "الليبرالي"، في حين كان المشروع الوطني المستند إلى الإسلام السياسي أكثر رسوخًا لدى الحضر والتجّار، ما دفعهم إلى اختيار المعسكر "الإسلامي". زاد هذا العامل من المواجهات، أحيانًا داخل المدينة نفسها، فثلث سكّان بنغازي تقريبًا أصولهم من المدن التجارية في إقليم طرابلس (من مصراتة والزاوية وطرابلس)، في حين يُعتبر الثلثان الباقيان من أصول بدوية، ينتمون، في أغلبهم، إلى القبائل التسع التاريخية في إقليم برقة، المعروفة بقبائل السعادي. دفع هذا الانقسام، الناتج عن خلافٍ حول الأصول، وأسبقية الوجود في المدينة، السكّان ذوي الأصول البدوية، إلى الالتحاق بالتيّار "الوطني"، في تنافس مع السكّان من أصول مصراتية، المؤيدين للمعسكر "الإسلامي"، ثمّ انجرفت هذه الخصومة نحو العنف، وبلغت أحيانًا حدّ "التطهير الإثني".
ظهر المحفّز في شخص اللواء السابق خليفة حِفتر (72 عاماً)، وهو ضابط سابق في جيش القذافي، انشق بعد أن وقع في الأسر في حرب تشاد في عام 1983، ليلجأ بعد ذلك إلى الولايات المتّحدة، ولم يعد إلى ليبيا إلّا في مارس/ آذار 2011، بُعيد اندلاع الحراك الاجتماعي. ثمّ ألهمه، على ما يبدو، الانقلاب الذي قاده الفريق عبد الفتّاح السيسي في مصر، ليصدر بيانًا يوم 16 مايو/ أيار 2014، يعلن فيه عن إطلاق عمليّة عسكرية سمّيت "الكرامة"، بهدف "القضاء على الإسلاميين"، من دون أن تكون لديه صفة رسمية في الدولة. وفي اليوم نفسه، قصفت مليشياته مواقع لكتيبةٍ في بنغازي، مستندًا إلى كتيبة القوّات الخاصّة في المدينة، وإلى سلاح الجو، المكوّن في أغلبيته من كوادر من نظام القذافي، انشقّوا في عام 2011، وعلى مليشيات تابعة لقبائل السعادي الكبرى، بالإضافة إلى كتائب الحركة الفيدرالية في برقة.
بدأت العمليّة في بنغازي ضدّ المليشيات المرتبطة بمختلف تيّارات الإسلام السياسي، لتعلن هذه المليشيات التي كانت متخاصمة اتّحادها ضدّ العدوّ المشترك. أمّا في إقليم طرابلس، فقد تحالفت مليشيات الزنتان مع عملية "الكرامة"، وهاجمت المؤتمر الوطني العام يوم 18 مايو، ما أضعف العملية السياسية الهشّة التي بدأت قبل عامين. وفي ردّ سريع على الهجوم، تشكّل معسكر مناهض لحفتر حول الفصيل "الإسلامي"، الحائز على الأغلبية داخل المؤتمر الوطني العامّ (بعد تطبيق قانون العزل السياسي الذي ألغى عضوية كلّ من عمل في دولة القذافي، بما في ذلك الذين انشقوا عنه من السبعينيات والثمانينيات، وتعرّضوا إلى محاولات تصفيّة، على غرار محمد يوسف المقريف). واستند هذا المعسكر إلى تحالف قوّات عسكرية، سميّت "فجر ليبيا"، تجمع مليشيات "ثوريّة" من بنغازي وطرابلس والزاوية وغريان وزوارة.
محليًّا، تموقعت الجهات الفاعلة السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى القبلية، وفقاً لمصالحها الخاصّة وخصوماتها القديمة، وهكذا اختارت قبيلة المشاشية، المعادية تاريخيًا للزنتان، الاصطفاف مع "فجر ليبيا"، في حين التحقت قبائل عديدة أخرى من إقليم طرابلس كانت مؤيدة للقذافي في 2011 (ورشفانة والنوايل والصيعان) باللواء حفتر، لأسباب محلية ناتجة عن الانقسامات بين الثوّار والموالين في عام 2011. وفي الجنوب، اصطف جزء من التبو مع عمليّة الكرامة، ليختار الطوارق تأييد المعسكر المعادي. هكذا، انتشرت الفتنة التي خشيها كثيرون منذ 2011 في كل البلاد، باستثناء معقلي النظام القذافي في سرت وبني وليد، حيث رفضت المدينتان الانحياز لأيّ طرف.
سرعان ما دفع اللواء خليفة حفتر البلاد نحو "حرب أهلية ثانية"، من دون أنّ يستعيد النظام كما أعلن في بداية عمليّته، في حين أصّر كلّ كيان على الانتصار والهزيمة الكاملة للكيان المقابل، كما حدث في 2011، من دون القبول بتقديم أيّة تنازلات.

ليبيا إلى أين؟
بعد شهر من إعلان عملية الكرامة، عقدت يوم 25 يونيو/ حزيران 2014 انتخابات تشريعية تحت ضغط من المجتمع الدولي. لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 18%، وانتُخب مجلس النوّاب الجديد الذي كان مقرّراً أن ينعقد في بنغازي. ولكن، نظرًا للظروف الأمنية، نقل مقرّه إلى مدينة طبرق الشرقية. لم يحضر جميع النواب الجلسة الافتتاحية يوم 4 أغسطس/ آب (حضر 122 من أصل 188 نائباً)، حيث قاطع نوّاب عديدون معادون للواء خليفة حفتر الجلسات. ثمّ عيّن المجلس حكومة مؤقتة، اتّخذت من البيضاء (شرق) مقرًّا لها. في المقابل، عيّن أعضاء المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في طرابلس، الخاضعة لسيطرة تحالف "فجر ليبيا" منذ 23 أغسطس 2014، حكومتهم "حكومة الإنقاذ الوطني"، متّهمين البرلمان المنتخب بالتحالف مع حفتر، في انعقاده في طبرق، من دون توفّر أيّ إثبات آنذاك.
زادت انتخابات يونيو الوضع سوءًا، حيث ادّعى كلّ طرف امتلاك الشرعية الكاملة، واختارت الدول الغربية والعربية معسكرها، معترفة ببرلمان طبرق بوصفه "الممثّل الشرعي والوحيد" للشعب الليبي، بداية من 4 أغسطس، ما زاد التوترات، وشجّع على التطرّف من الطرفين.
في ظلّ الصراعات القائمة، عزّز تنظيم الدولة الإسلامية وجوده في درنة (شرق)، قبل أن يتراجع في المعارك التي خاضها مع الجماعات المسلّحة، كما ظهر في سرت، معقل معمر القذافي، حيث ارتكب فظائع عديدة، من قطع رؤوس وصلب واستخراج جثث والتنكيل بها، وهدّد أيضًا بـ"فتح" روما وإغراقها بالمهاجرين عبر البحر، إذ يستغل هذا التنظيم الحرب الأهلية لينمو ويوسّع نفوذه، على الرغم من أنّه لا يحظى بقاعدة اجتماعية في ليبيا.
بعد أكثر من عام من الحرب الأهلية الليبية الثانية، وبعد أشهر من انطلاق الحوار الليبي - الليبي (في الجزائر والصخيرات المغربية وجنيف)، برعاية الأمم المتّحدة، يبدو أنّ بوادر حلّ الأزمة تلوح في الأفق، إذ وقّع برلمان طبرق على المقترح الثالث الذي تقدّم به مبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة إلى ليبيا، برناردينو ليون. ولكن، نظرًا لتغيّب المؤتمر الوطني العام ورفضه التوقيع، تمّ تعديل المقترح. وينصّ المقترح الأخير على الإبقاء على مجلس النوّاب (مع تمديد ولايته التي تنتهي يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2015)، باعتباره آخر هيئة منتخبة من الشعب، وتكوين غرفة ثانية استشارية، يعيّن ثلثا أعضائها الـ120 المؤتمر الوطني العام، ويعيّن الثلث الباقي بالتشاور بين الطرفين. كما يدعو، أيضاً، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية التي وُضعَت شرطاً مسبقاً لتدخّل قوّة عربية أو أفريقية في ليبيا، لنزع السلاح، تخضع لسلطة الحكومة، مع إقامة انتخابات، والانتهاء من كتابة الدستور في غضون عام.
في حال فشل المفاوضات واستمرار الصراع، لا يبدو أنّ أحد الطرفين قادر على الحسم، كما يهدّد تمزّق النسيج الاجتماعي مستقبل ليبيا، فلئن لم يدعُ أي طرف علنًا إلى تقسيم البلاد، فإنّ اجتماع الليبيين حول مشروع وطني واحد، قائم على العيش المشترك، يبدو صعب المنال.

العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2015-09-07 الساعة 23:14

الكلمات الأكثر بحثاً