اتصل بنا
 

في الهروب من سطوة الجائحة وحظر التجول على أجنحة الجماعات المُتَخَيّلة

نيسان ـ نشر في 2020-05-25 الساعة 13:35

x
نيسان ـ خاص- نيسان.. الجماعات المُتخيّلة كتاب جميل، وقد أعجبَ مؤلفه، بندكت اندرسن، أن أحد المراجعين أطلق عليه تصنيفًا يصفه فيه بأنه ليبرالي أكثر من كونه ماركسيًا، وماركسي أكثر من أن يُعتبرَ ليبراليًا، وربما كان مرد هذا الالتباس الجميل أن اندرسن استخدم منهجيات المادية التاريخية في تحليل سيرورات تشكل الجماعات والشعوب والقوميات بينما حلّق خارج الأطر والعناوين الأيدلوجية الكلاسيكية المنغلقة.
إذ أن الكاتب لم تبهره الأضواء المنبعثة من قرون التنوير والعلمانية، ولم تنطلِ عليه كل حيل الحداثة، بل إنه رأى، برغم كل ذلك، أنها جلبت معها ظلامها الحديث الخاص بها، هذا برغم اعترافه بما تحقق من إنجازات، وبرغم إقراره الضمني بتقدمية التشكيلات الاجتماعية الحديثة بالنسبة لما قبلها، وذلك في مقابل تناوله بموضوعية علمية كافية إخفاق بعض المجتمعات في الوصول إلى ما تبتغيه، بحيث استعاضت عنه بالتخيُّل، فضرب لنا الأمثلة بكوبا وألبانيا والصين وكيف أنها تصورت للحظة، لمجرد تبنيها الفكرة الثورية، أنها صارت متقدمة على مجتمعات مثل مجتمعات فرنسا وسويسرا وأمريكا، ولم تثنها عن ذاك التخيُّل معدلات انتاجها المنخفضة ومستويات معيشتها البئيسة وتكنولوجيتها المتأخرة.
يمرر الكاتب أمام القارئ شريط بانوراما، يعرض مراحل ومقومات تشكل الجماعة (الأمة) والعناصر المهمة لذلك بما فيها اللغة، ولأول مرة يشرح لنا بالتطبيق العملي معنى القَطْع مع القديم، وأن ما سهّل على أوروبا مغادرتها لعصور الحروب الدينية، وسطوة الكنيسة، هو تخلّيها عن اللغة القوية الجامعة، اللاتينية، والاستعاضة عنها باللغات المحلية ومنها اللغة الإنجليزية التي لم تزدهر إلا في القرون الأخيرة من تأريخ أوروبا، ودلل على ذلك بأن كاتبا مثل شكسبير لم يُقرَأ على مستوى واسع إلا بعد هذا القطع مع الماضي ولغته، وإفساح المجال لبروز لغات جديدة.
وما كان يمكن للكاتب أن يصل إلى هذا التصور، من دون تحديد ماهية الأمة أو الجماعة، وتثبيت تعريفها على أنها جماعة سياسية متخيّلة، بحيث يشمل التَخيُّل كونها محددة وسيدة، من دون إهمال الإشارة إلى دوافع الأفراد للانضواء ضمن جماعة متخيّلة ممتدة، في إطار البحث عن مساواة ما.
ولم يثن ذلك بندكت اندرسن عن الاستعانة بتعريف مهم للمفكر والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي أورده في كتابه (ما الأمة)، حيث يقول إن جوهر الأمة يتمثل في امتلاك أفرادها جميعهم اشياء مشتركة، وإلى هنا نستطيع أن نعتبر هذا التعريف عاديا، لكن الصاعق في الشق الثاني من التعريف، حيث يُكمل؛ أنه لا بد أن تكون لدى هؤلاء الأفراد أيضا أشياء ينسونها معا.. فلا بد لكل مواطن فرنسي من أن يكون قد نسي سان بارتيملي ومذابح ميدي في القرن الثالث عشر، وربما كان من الجدير برينان أن يضيف إلى الأشياء المنسية برغبة جماعية، والتي تزيد من لحمة الجماعة وجود أشياء وأفعال خسيسة مارسها أفرادها بصفتهم الجمعية، وليس فقط مورست عليهم، مثل استعمار فرنسا للجزائر والمغرب العربي وممارساتها في هذه البلدان طَوال حقبة الاستعمار.
لكن، لِننسَ هذا الآن، وانتبهوا معي أيها السادة لفكرة التعريف كم هي مرعبة وصادمة، تخيّلوا ! فهذا ربما ينطلي أيضا على جماعاتنا الفرعية، فالرابط الأكبر ليس الاعتداد والفخر والقوة، بل تلك الأشياء المشتركة بين أفراد الجماعات التي يتواطأون معا لنسيانها واخفائها، وربما من ضمنها قتل الأب وقتل الأخ.
الجميل في الكاتب أنه ناقم أو لنقل غير معتد بالتجربة الغربية (الرأسمالية)، وبدا متسامحا مع أوروبا الشرقية وروسيا وشرق آسيا على وجه التحديد، برغم ملحوظاته الدقيقة على تجارب الجماعات المتخيّلة في هذه الأمصار، ما منح الكاتب درجة من الموضوعية ، ولقد ذكر، في هذا الإطار، أن أمريكا هي أرض الأنانية الحرة، بينما لم يهاجم باقي الأمم، أو يتعامل معها باستعلائية الاستشراق، برغم نظرته النقدية عموما.
ورصد الكاتب مراحل انتقالية حساسة في تأريخ "الجماعات" منها الحربان العالميتان حيث قضت الأولى على الامبراطوريات ونتج عنها اختفاء آل هابسبورغ وآل هونزولرن وآل عثمان وآل رومانوف، ما أدى إلى تشكل الدولة الأمة، أي القومية.
أخيرًا، ما بقي إلا أن أقول إنني كنت ناقما في بداية القراءة لكتاب الجماعات المتخيّلة لبندكت اندرسن على كاتب المقدمة، الدكتور عزمي بشارة، بسبب طولها وحشده للكثير من المعلومات والآراء بحجم أكبر من أن يصنف كمقدمة، لكني وبعد قراءة الكتاب، وبعد التورط في كتابة هذا المقال الطويل نسبيا، أجدني بهذا المعنى متسامحا مع بشارة، لأن الكتاب، يستثير في كل من يطلع عليه، الرغبة العارمة في البوح والحديث السيال، وذلك ربما كونه يضرب في مواقع ما زلنا عالقين فيها كجماعات متخيلة ومتخلفة في الآن نفسه.

نيسان ـ نشر في 2020-05-25 الساعة 13:35

الكلمات الأكثر بحثاً